المادة    
الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. أما بعد: أيها الإخوة والأخوات من المشاهدين الكرام! فقد تعرضنا في الحلقات الماضية لموضوع النبوة، وموضوع مقامها وبيان ما وقع فيها من اختلاف وتباين؛ بين المنهج السامي الكريم المعصوم في الإسلام, وبين المناهج المنحرفة إن كانت كتابية أو مادية أو إلحادية. ووعدنا بأن نبدأ في هذه الحلقة بإذن الله تبارك وتعالى بالحديث عن إبراهيم عليه السلام؛ باعتباره النموذج الواضح والأمثل في تاريخ النبوة والأنبياء عند أصحاب الملل الثلاث وغيرهم, كما سوف نرى بإذن الله تبارك وتعالى. ونحن في الحقيقة مع أننا قد تجازونا الحديث عن قوم عاد وقوم ثمود -وقبل ذلك الحديث عن الطوفان- ولكن قد نعود للحديث عن هاتين الأمتين عرضاً -إن شاء الله تبارك وتعالى- أو استطراداً عندما يأتي الحديث عن قوم موسى عليه السلام وعن الفراعنة، وفي مواضع معينة ينبغي أن نتعرض لهما, وما عدا ذلك فلا إشكال في هاتين الأمتين, ولا مجال للنقاش ولبيان الاختلاف فيهما؛ إلا في المسألة المهمة التي تأتينا الآن في هذا الموضع؛ وهي فيما يتعلق بنسب إبراهيم الخليل عليه السلام، أو المدة ما بين إبراهيم عليه السلام وبين نوح عليه السلام. فهنا فقط نحتاج أن نقول: إن الذي جاء في كتاب الله تبارك وتعالى -القرآن الكريم- واضحاً جلياً أن عاداً قد أتت بعد قوم نوح, وأتت بعدها ثمود, ثم بعد ذلك جاء عصر إبراهيم عليه السلام، إذاً فهناك آماد بين الخليل عليه السلام وبين قوم نوح لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى, وهناك كثير من الأمم والقرون لا يعلمهم إلا الله، ولا يعرفهم النسَّابون ولا المؤرخون. ‏
  1. نسب إبراهيم عليه السلام

    هذا هو المهم في هذا الموضوع تاريخياً في الجملة -كما أشرنا- وهو مهم هنا في الكلام عن نسب إبراهيم الخليل عليه السلام؛ لأن أول ما يتحدث عنه العلماء -كما فعل الحافظ ابن كثير أو ابن عساكر أو غيرهما- أن يتحدثوا عن آبائه، ثم يأتون بما في التوراة ، والذي في التوراة أن نوحاً عليه السلام هو الأب العاشر للخليل عليه السلام, وهذا غير معقول إذا نظرنا إلى هذه الأمم العظيمة بينهما؛ فلذلك قد يقال: إن الذي يسد هذه الفجوة هو طول الأعمار التي تذكر, فالبعض قد يعمر أربعمائة سنة أو مائتين أو نحو ذلك؛ لكن هذا في الحقيقة لا يكون إلا إذا ثبت لدينا ذلك.
    عندما تثبت قضية تاريخية كحقيقة فإننا نوفق بينها وبين غيرها من الحقائق الثابتة، أما عندما تكون القضية مثل قضية عاد وثمود ثابتة في القرآن بدون أي شك بترتيب تاريخي وتسلسل واضح؛ فإنه لا داعي على الإطلاق أن نفترض غير ذلك, أو أن نؤول بينها وبين شيء آخر، بل يجب علينا أن نجزم مباشرة أنه غير صحيح؛ لأنه -كما أشرنا- لم تذكر في التوراة هاتان الأمتان, ولم تذكر القرون التي ذكرها الله تبارك وتعالى وأشار إليها بأنهم لا يعلمونها؛ فلذلك نحن نجزم مبدئياً بأن هذا النسب غير صحيح بهذا الشكل، وبهذا التسلسل.
    الذي يهم في هذا الجانب -وله دلالته فيما بعد إن شاء الله- أن إبراهيم عليه السلام هو من نسل عابر, ويهمنا اعتراف أهل الكتاب بأنه من نسل عابر, وأنه من قوم إرم, وأنه -كما في العهد القديم- كان آرامياً، ويتكلم اللغة الآرامية.
  2. لغة إبراهيم عليه السلام

    المهم في هذا هو إثبات أن إبراهيم عليه السلام من بقية العرب القديمة, وأنه بالفعل جاء إلى مكة, ويؤيد أنه أتى إلى مكة أنه بنى الكعبة، وأنه خاطب العرب الذين لقيهم في طريقه, أو عندما تخاطب مع زوجات إسماعيل عليه السلام, وهن من العرب المحدثة؛ لأن إسماعيل عليه السلام هو بداية العرب المحدثة أو الحديثة أو المستعربة, أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول من نطق بالعربية المبينة إسماعيل), والعربية المبينة أو العربية الأخيرة التي كانت منها لغة قريش, ثم بالتالي بقيت -ولله الحمد- وحفظها الله بهذا القرآن إلى اليوم.
    فإبراهيم عليه السلام قبل ذلك كان على اللغة الآرامية التي جاءت في التوراة وذكروها, قال له: كلم عبدك بالآرامي, يعني: أنه كان على اللغة العربية القديمة؛ التي هي وسط بين اللغة العربية القديمة جداً التي كانت معروفة في قبائل اليمن ، وبين العربية الحديثة التي نتكلم بها، والخلاف بين هذه اللغات لا يعدو الخلاف بين اللهجات القبلية المعروفة إلى اليوم.
    إذاً: نحن استطعنا أن نعلم -وهذا واضح ويعترف به المستشرقون وغيرهم- أن اللغة العبرية على ما مر بها من تغيير قريبة جداً إلى اللغة العربية, وأنها فرع من فروع اللغة العربية القديمة، فإذا كان ذلك في شأن اللغة العبرية؛ فما بالك بشأن اللغة الآرامية التي هي قريبة جداً من اللغة العربية التي نتكلمها اليوم, والتي نزل بها القرآن، وإن كانت تسمى أحياناً السريانية، التي وضعها اليونان نسبة إلى سوريا أو آسوريا؛ لأنهم يطلقون على اسم المنقطة سوريا فيقال لها: السريانية.
    على أية حال هي اللغة الآرامية التي يقولون: إن العبرية الحديثة تفرعت منها؛ ولذلك كثير من الأسفار في كتب العهد القديم مكتوبة بالآرامية، وهذه هي اللغة العربية التي كان يتكلم بها إبراهيم الخليل عليه السلام، فهو عليه السلام كان عربياً من العرب العاربة أو من آخرهم؛ لأنه من بعده تفرعت الأمم الفروع المعروفة, ومن أهم هذه الفروع الفرع العربي الأخير الذي غلب على العنصر العربي كله؛ وهو الفرع الإسماعيلي، والفرع الإسرائيلي الذي هو من ابنه إسحاق, يعني: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فكان منه بنو إسرائيل.
  3. اصطفاء الله تعالى لإبراهيم وصلته بمكة المكرمة

    الذي يهمنا في هذا الباب -ولا يهمنا كثيراً في تاريخ العقيدة أو الدين غيره- هو أن إبراهيم الخليل عليه السلام اصطفاه الله سبحانه وتعالى واختاره من هذه الأمة، وإمكانية أن يكون هو الذي تتفرع منه هذه الشعوب والقبائل -حقيقة مشتركة- وأن يكون قد تكلم باللغة التي تكلم بها أهل جزيرة العرب هذا يشهد به الواقع، فقبل إبراهيم عليه السلام بمئات السنين أو أكثر يمكن فكُّ كل الرموز التي عُثر عليها -في الألواح والنقوش والأختام وغير ذلك- جميعاً باللغة العربية المستعملة اليوم أو من المعاجم.
    إذاً: ليس هناك أي إشكال في هذا الأمر والحمد الله, وبالتالي فدعوى أنه كان يهودياً أو نصرانياً أو إسرائيلياً أو أي اسم من هذه الأسماء هي دعوى باطلة ليس فقط من ناحية الدين؛ بل أيضاً من ناحية النسب، ومن ناحية اللغة.
    فمن المؤكد -وهذا نكرره لأهميته- أن شعوب ما بين النهرين بلاد الرافدين وشعوب الهلال الخصيب في بلاد الشام أيضا -الهلال كله منه بلاد الشام- و مصر، وهذه الشعوب أنها انطلقت أصلاً من جزيرة العرب، وبالتالي تفرعت وتعددت اللهجات -كنعانية أو عمونية أو موآبية .. إلى آخره- ولكنها كانت كلها تنطلق من هذه الجزيرة التي يمكن بدون مبالغة في القول؛ بل بكل يقين -إن شاء الله- أنها هي: مهد البشرية ومهد الإنسانية الأول.
    وبالتالي فلا معنى لما يجادل ويناقش فيه المستشرقون الحاقدون؛ و اليهود بالذات ثم من تبعهم من غيرهم في مسألة: إلى من ينتسب الخليل عليه السلام؟ وكيف يكون له صلة بـ مكة؟! ويتجاهلون ذلك؛ بل ينكرونه؛ بل وصل الأمر ببعضهم أن ينكر وجوده عليه السلام تماماً.
    وتعجبنا هنا كلمة للعقاد في كتابه إبراهيم أبو الأنبياء يقول: إن هؤلاء يكتبون لإثبات دين وإنكار دين, وليس لإثبات الحقائق التاريخية.
    وحقيقة هم يهمهم إثبات الدين التوراتي اليهودي, وإنكار الدين الإسلامي, هذا الذي يهم هؤلاء المستشرقين جميعاً! أما الباحث التاريخي المتجرد فسوف نرى أن هناك نقاط التقاء كثيرة معه يمكن أن نصل إليها إن شاء الله؛ لأنه ليس هناك إشكال ولا تعارض بين الحق الذي يأتي بطريق الوحي والحق الذي يأتي بطريق التواتر والحق الذي يأتي بطريق النقوش والآثار؛ الحق دائماً بعضه يشهد لبعض، وبعضه يصدق بعضاً، وإنما يكون بين الاختلاق وبين التأويل وبين محاولة أن يُنكر دين بجملته وحضارة برمتها ونبوة بأكملها لإثبات نبوة أخرى وحضارة أخرى.